تعريف الشهادة:
الشهادة لغةً: الخبر القاطع.
واصطلاحًا: هي إخبار عن شيء بلفظ خاص.
مشروعية الشهادة:
الشهادة مشروعة بنص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وإجماع الأمة.
أما من القرآن الكريم، فقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ البقرة:283.
وأما من السنة النبوية الشريفة فما رواه الإمام مسلم عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمينُهُ".
أما الإجماع، فهو منعقد على مشروعية الشهادة، واستحبابها، ولم يخالف بذلك أحد من العلماء.
اختلاف الشهادات من حيث عدد الشهود:
الحقوق المشهود بها نوعان: حق الله، وحق العباد.
حق الله تعالى:
هذا النوع من الحقوق لا بد فيه من شهادة الرجال؛ لأن شهادة النساء لا تخلو من شبهة النسيان والخطأ، وهذه حقوق يؤخذ فيها بالاحتياط.
والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى أكَّد في آيات قرآنية كثيرة أن المرأة مساوية للرجل تمامًا في التكليف والتشريف وفي المسؤولية، وفي التكليف مكلفة بأركان الإيمان وأركان الإسلام ومسؤولة عمّن استرعاها الله عزّ وجلّ، وعن رعاية بيت زوجها وأولادها، وفي الآخرة تدخل الجنة كالرجال.
لكن الله تعالى خلق الرجل ببنية جسمية وبنية نفسية وبنية عقلية تختلف عما خلق عليه المرأة، وهذا لا يقلل من شأنها، فالله تعالى حينما زاد من قوة إدراك الرجل وأنقص من انفعاله وعاطفته، فهذا كمال خلقي في حقه، وحينما أنقص من قوة إدراك المرأة وزاد في انفعالها ومشاعرها الرقيقة، فهذا كمال خلقي فيها، والمجموع واحد في كلا الطرفين، لكل منه وظيفته ومهمته في هذه الحياة يتكاملان فيها، وصفات كل منهما شرط لازم كاف لنجاح العلاقة الزوجية.
وانفعال المرأة ورقتها وأنوثتها وعاطفتها لا تسمح لها أن تصدر أحكامًا كإعدام مجرم مثلًا، وقوامة الرجل هي قوامة إدارة وتنظيم لا قوامة سيطرة واستفزاز؛ ولذلك فإنه في حقوق الله تعالى تؤخذ الشهادة من الرجال فقط لطبيعته المختلفة عن النساء.
وحقوق الله ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: لا يُقبل فيه أقلُّ من أربعة شهود، وهو حد الزنى، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ النور:4، فقد رتب سبحانه وتعالى الجلد على عدم الإتيان بأربعة شهداء، فدل بذلك على أن الزنى لا يثبت بأقل من ذلك.
وبيَّن هذا الإمام مسلم في صحيحه عن سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلًا، لم أمسَّهُ حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال: كلَّا والذي بعثك بالحق، إِنْ كنتُ لأُعاجِلَنَّهُ بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اِسمعُوا إلى مَا يَقولُ سيِّدُكُم، إنَّه لَغَيُورٌ، وأنا أَغْيَرُ منه، واللهُ أَغْيَرُ مِنِّي". وقال ذلك عندما نزل ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ...﴾، ثم نزلت آيات اللِّعان فُسْحةً للأزواج.
الحكمة من وجود أربعة شهداء في الزنى:
الحكمة من طلب أربعة شهداء على ثبوت حد الزنى، أن الزنى لما كان يقوم بين اثنين: الرجل والمرأة، صار كالشهادة على فعلين، فاحتاج إلى أربعة من الشهود.
وكذلك فإن الزنى من أغلظ الفواحش، فَغُلِّظَت الشهادة فيه ليكون أستر على الناس. وإنما تقبل شهادة الشهود في الزنى إذا قالوا: حَانَتْ مِنَّا التفاتةٌ فرأينا ذلك كاملًا، أو قالوا: إنا تعمَّدنا النظرَ لأداء الشهادة.
الوجه الثاني: وهذا يُقبَل فيه رجلان اثنان، وهو ما سوى الزنى من حقوق الله عز وجل، مثل قطع الطريق، وقتل النفس، والسرقة. ودليل ذلك عموم قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ البقرة:282، وقوله صلى الله عليه وسلم: "شَاهِداكَ أو يمينُه".
الوجه الثالث: يقبل فيه شهادة رجل واحد، كمثل رؤية هلال رمضان بالنسبة للصوم، على عكس رؤية هلال شوال؛ فلا يقبل بأقل من شاهدين، وذلك احتياطًا للخروج من عبادة الصيام.
روى أبو داود في سننه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيتُه، فصامه وأمر الناس بصيامه.
النوع الثاني - حق العباد:
وهذا النوع أيضًا على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: لا يُقبَل فيه إلا بشهادة رجلين، وهو ما لا يقصد منه المال، ويكون مما يطلع عليه الرجال: كالطلاق والرجعة، والإسلام، والجرح والتعديل، والوقف، والوصية، ونحو ذلك.
قال تعالى في الطلاق: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ الطلاق:2.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزواج: "لا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ، وشَاهِدَي عَدْلٍ".
الوجه الثاني: يُقبَل فيه شاهدان رجلان، أو رجل وامرأتان، أو شاهد ويمين المُدَّعي، وهو كل حق كان القصد منه المال من عين أو دين أو منفعة، كالبيع، والإقالة، والحوالة، والضمان، والإجارة، والرهن، والشُّفْعَة ونحوها.
ودليل ذلك قول الله عز وجل: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ البقرة:282.
الوجه الثالث: يُقبَل فيه شهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، أو أربع نسوة، وذلك في كل حق للآدمي لا يطلع عليه الرجال غالبًا، وذلك مثل الولادة والرضاعة، والبِكارة، وعيوب النساء.
قال الزُّهْري رحمه الله تعالى: مضت السُّنَّة بأنه يجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، من ولادة النساء وعيوبهن.
الشهادة قسمان: شهادة تحمل، وشهادة أداء
أولًا – شروط تحمل الشهادة:
لا يشترط عند تحمل الشهادة إلا شرط واحد، وهو التمييز؛ لأنه به يعي الإنسان ما شاهده ويحفظ ما يراه.
ثانيًا – شروط أداء الشهادة:
يشترط في الشاهد عند أداء شهادة الشروط التالية:
- 1-الإسلام: لا تُقبَل شهادة غير المسلم على المسلم أو غيره، ودليل ذلك قول الله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ الطلاق: 2، وغير المسلم ليس بعدل، كما أنه ليس منا أيضًا؛ لأنه لا يُؤْمَنُ كَذبُهُ. كما أن الشهادة ولاية، ولا ولاية لغير مسلم على المسلم.
- 2-البلوغ: لا تُقبل شهادة الصبي، ولو مُمَيِّزًا؛ لأن الله عز وجل قال: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، والصبي لم يبلغ مبلغ الرجل، ولأنه لا يُؤْمَنُ كَذبُهُ لأنه غير مُكلَّف.
- 3-العقل: لا تُقبل الشهادة من مجنون؛ لعدم معرفته بما يقول، وللإجماع أيضًا على عدم جواز شهادته.
- 4-العدالة: لا تُقبل شهادة الفاسق؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ الطلاق: 2.
- 5-أن يكون غير متهم في شهادته؛ لقول الله عز وجل: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ البقرة: 282. وبناء على ذلك لا تقبل شهادة عدو على عدوه، ولا شهادة والد لولده ولا ولد لوالده؛ لتهمة التحامُل على العدو والمحاباة للوالد، أو الولد. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجُوزُ شَهادةُ خَائِنٍ، ولا خَائنةٍ، ولا زَانٍ، ولا زانيةٍ، ولا ذِي غِمْرٍ [الغِمر: الحقد] على أَخيه".
- 6-أن يكون ناطقًا: لا تُقبل شهادة الأخرس، وإن كانت إشارته مُفْهِمةً، احتياطًا في إثبات الحقوق.
- 7-أن يكون الشاهد يَقِظًا: لا تُقبل شهادة المُغفَّل لاحتمال الخطأ والغلط في شهادته.
شهادة الأعمى:
الأصل في شهادة الأعمى أنها لا تجوز؛ لأنه لا يستطيع أن يميز بين الخصوم، ولكن العلماء جوَّزوا شهادته في خمسة مواضع:
شروط العدالة في الشهادة:
للعدالة في الشاهد خمسة شروط:
- 1-أن يكون مُجْتنبًا للكبائر.
- 2-أن يكون غير مُصِرٍّ على الصغائر.
- 3-أن يكون سليم السريرة.
- 4-أن يكون مأمونًا عند الغضب.
- 5-أن يكون محافظًا على مروءة مثله.
كما لا تُقبل شهادة من يَجُرُّ لنفسه نفعًا بشهادته، أو يدفع عنها ضررًا، مثال الأول: أن يشهد الوارث أن مُوَرِّثَه قد مات قبل أن يَندَمِلَ جَرحُـه، وغَرضُه من هذه الشهادة أَخْذُ الدِّيَة، فلا تقبل.
حكم الرجوع عن الشهادة، وما يترتَّب على ذلك:
أولًا- حكم الرجوع عن الشهادة:
الرجوع عن الشهادة حرام؛ لأن في رجوعهم تضييعًا للحقوق، ويعتبر رجوعهم كتمانًا للشهادة، والله عز وجل يقول: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ البقرة: 283.
أما إذا كان الشهود كاذبين في شهادتهم فرجوعهم عن الشهادة واجب،؛ لأنها شهادة زور، وهي كبيرة من الكبائر.
ثانيًا - ما يترتب على رجوعهم عن الشهادة:
إذا رجع الشهود عن الشهادة التي كانوا قد شهدوا بها، فإما أن يكون رجوعهم عنها قبل الحكم، أو بعده.
فإذا كان رجوعهم عنها بعد الحكم، فإما أن يكون ذلك الرجوع قبل استيفاء الحقوق من مال أو عقوبة، أو بعد استيفائها، فهذه الحالات ثلاث نذكرها فيما يلي:
أ- رجوعهم عن الشهادة قبل الحُكْم:
إن كان رجوعهم عن الشهادة قبل حكم الحاكم بها امتنع الحكم بشهادتهم، سواء شهدوا شهادة غيرها، أم لم يشهدوا، وسواء أكانت شهادتهم بمال، أو بعقوبة؛ لأن الحاكم لا يدري: أصدقوا في الأولى، أو في الثانية، أم صدقوا في الشهادة، أو في الرجوع، فينتفي ظن الصدق بشهادتهم، وأيضًا فإن كذبهم ثابت لا محالة، إما في الشهادة الأولى، أو في الشهادة الثانية، وفي الشهادة، أو في الرجوع عنها، ولا يجوز الحكم بشهادة الكاذب. وإن رجعوا عن شهادة في زنى حُدُّوا حَدَّ القذف؛ لأن شهادتهم قذف للمشهود عليه.
ب- رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم وقبل استيفاء الحق:
إن كان رجوع الشهود عن الشهادة بعد حكم القاضي بها، ولكن ذلك الرجوع كان قبل استيفاء الحق ممن هو عليه:
• فإن كان المشهود به مالًا نفذ الحكم به، واستُوفي المال ممن هو عليه؛ لأن القضاء قد تم، وليس الحكم بالمال مما يَسقُطُ بالشُّبْهة حتى يتأثر بالرجوع، فينفذ الحكم، ويستوفى المال، مادام الحكم قد صدر قبل رجوعهم.
• وإن كان الحق المشهود به عقوبة، سواء أكانت لله تعالى (كالزنى)، أم كانت لآدمي (كالقذف) فلا تستوفى العقوبة ما دام الشهود قد رجعوا عن شهادتهم قبل استيفائها؛ لأنها تسقط بالشبهة، والرجوع عن الشهادة شبهة.
ج - رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم وبعد استيفاء الحق:
إذا كان رجوع الشهود عن الشهادة بعد الحكم بها، وبعد الاستيفاء للمحكوم به =لم يُنقَض الحكم، لتأكد الأمر، ولجواز صدقهم في الشهادة، وكذبهم في الرجوع، أو عكس ذلك، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فلا ينقض الحكم بأمر مشكوك فيه. ويترتب على رجوعهم هذا:
• أنه إن كان الحق المستوفَى من المشهود عليه بعقوبة كأن كان قصاصًا في نفس أو طرف، أو قتلًا في رِدَّة، ومات المشهود عليه، ثم رجعوا عن الشهادة، وقالوا: تعمدنا الشهادة، ولا نعلم حال المشهود عليه، أو قالوا: تعمدنا الكذب في الشهادة، فعليهم القصاص، أو دية مُغلَّظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم، لتسبُّبهم إلى إهلاك المشهود عليه.
• ولو شهدوا بطلاق بائن، وفرق القاضي بين الزوجين، فرجعا عن الشهادة دام الفراق؛ لأن قولهما في الرجوع محتمل الكذب والصدق، فلا يرد الحكم بقول محتمل، وعلى هؤلاء الشهود الراجعين عن الشهادة مهر مِثْل للزوج بدل ما فوَّتوه عليه.
• ولو رجع شهود شهدوا على مال بعد الحكم واستيفاء المال غرموا المال الذي استُوفي من المحكوم عليه، لأنه بدل ما فوتوه عليه. والله أعلم.