علمتني سورة

ما تحصده أجسادنا من الطاعات تحرقه ألسنتنا من الزلات.

« All Events

النفس الإنسانية

 

ورد في القرآن الكريم تسميات عِدّة للنفس البشريّة، فهل هي نفسٌ واحدةٌ؟ أم عدّة نفوسٍ؟

في الحقيقة إنّ النفس هي واحدةٌ، ولكنها تملك صفاتٍ كثيرةً، حسب تصرّفات صاحبها، ومنها:

 

  • 1-النّفس المطمئنّة:

    قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي الفجر:27-30، هي نفسٌ خيّرة تأمر بالخير، وهي النّفس التي سَكنت إلى ربّها وإلى صفاته الفُضلى، وأسمائه الكريمة، والطمأنينة تعني أنّ الله عز وجل يُنزل الاطمئنان والسّكينة على صاحب هذه النفس، فيَغدو قلبُه وسمعُه وبصرُه كله بين يدي الله، ويُحقَّق الوصولُ إلى هذه النفس بكثرة الذّكر، والاستغفار الدائم غير المُنقطِع.

     

  • 2-النفس الأمارة بالسوء:

    قال تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يوسف:53 (في قول امرأة العزيز عن نفسها لتبرئة سيدنا يوسف)، وهذه النفسٌ كثيرة الذنوب، آثمةٌ، ظالمةٌ لصاحبها، وتجرّه إلى غضب الله عز وجل وعصيانه، وتنتهي به في نار جهنّم، وهي نفسٌ فاسقةٌ شرّيرةٌ.

    يَجب على صاحب هذه النّفس مُخالفة هواه وشهواته، والرجوع إلى طاعة الله ونيل رضاه، فمن تخلّص من شرّ نفسه وفتنتها وفّقه الله عز وجل ووعده وَعدًا حسنًا.

     

  • 3-النّفس اللوّامة:

    قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ القيامة:1-2، وهي النفس الكثيرة اللوم، تخافُ الله وتخشى عقابه، أثنى عليها الله، وأقسم بها في كتابه، وهي نفسٌ تحاسب صاحبها وتوبّخه على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، وهذه النّفس متقلّبةٌ، متردّدةٌ، تأتي الذّنب، وتلوم صاحبها عليه، وتردّه إلى الصّواب، تغفل عن الذّكر والطاعة ثمّ تعود.

    يقول الحسن البصريّ: "إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا، يقول: ما أردت بهذا؟ لمَ فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى، أو نحو هذا من الكلام".

    وقد أضاف بعض العلماء إلى هذا التقسيم أربعة حالات أخرى من النفس، وهي:

  • 4-النّفس الملهمة.
  • 5-النفس الراضية.
  • 6-النفس المَرْضِيَّة.
  • 7-النفس الكاملة.

ولكن في الحقيقة لا تعَدُّ هذه الإضافة من الحالات المختلفة للنفس عن سابقاتها الثلاث الأساسية، بل هي فروع منها، والله أعلم.

 

مصير النّفس:

يتساءل العلماء عن نهاية النفس، وهل تموت حالها حال الجسد؟ أم تبقى مخلّدة؟، فالنفس البشرية تتَّصف بشدة غُموضها، وهي الجزء المقابل للجسم في تَشَارُكهما وتفاعلهما وتبادلهما المُستمر، وهي جزء مُحرِّك لنشاطاته بأنواعها، سواءً أكانت إدراكية، أم حركية، أم انفعالية، أم أخلاقية، وماهيتها من علم الغيب، ولا يعلمه إلا الله تعالى.

 

فضل مجاهدة النفس:

تنقسم طبيعة النّفس الإنسانيّة -كما جاء عن ابن القيّم رحمه الله تعالى- إلى ثلاثة أقسامٍ، وهي: النّفس الأمّارة بالسوء، والنفس اللوّامة، والنفس المطمئنّة، ويمكن أن تجتمع هذه الأقسام في النّفس البشريّة في اليوم الواحد، فتكون في فترةٍ من اليوم مطمئنةً، وتصبح بعد قليلٍ أمّارةً بالسّوء، فيُحكم على طبيعة النفس في صفاتها الغالبة من خلال طبع صاحبها وتصرّفاته، والمطلوب من المسلم مجاهدة نفسه وتدريبها حتى تُصبح نفسًا مطمئنةً.

جاء عن ابن القيّم رحمه الله تعالى أنّ المجاهدة تكون في أربعٍ وهي: مجاهدة النّفس، والشيطان، والهوى، والدّنيا، وقد فُرضت على المسلم المجاهدة في هذه الأربع ابتغاء مرضاة الله وطلب هدايته حتى ينال الفوز بالجنّة، فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان جعل فيه حالتين: النّفس الأمّارة، والنّفس المطمئنّة، وهما متعاديتان؛ فما يُرضي النّفس المطمئنّة لا يُرضي النفس الأمّارة، وما يُرضي النّفس الأمّارة لا يُرضي النّفس المطمئنّة، والذي تتلذّذ وتستمتع به النّفس الأمّارة تتألم به النّفس المطمئنّة، والعكس صحيحٍ، فالنّفس المطمئنّة تبتغي رضا الله سبحانه وتعالى من خلال العمل لأجله وتطبيق شرعه واتّباع أوامره واجتناب نواهيه، وهذه الصّفات تكون شاقّةً ومؤلمةً على النّفس الأمّارة؛ فهي أمارةٌ بالسّوء وتعمل لغير الله.

ولذلك يجب على الإنسان المسلم تقوى الله؛ لأنّ العاقبة للمتّقين، وتكون التّقوى من خلال اتباع أوامر الله واجتناب نواهية والعمل ابتغاء وجهه، وعدم التحيّز للباطل؛ لأنّ الباطل يتحيّز مع الشّيطان والنّفس الأمّارة، والحقّ يتحيّز مع النّفس المطمئنّة، والنصر يكون مع الصبر، فمن صبر واتّقى وجاهد نفسه ابتغاء مرضاة الله فله العاقبة وله الفوز في الدنيا والآخرة كما وعد الله تعالى.

 

وسائل إصلاح النّفس:

من وسائل إصلاح النفس الآتي:

-أداء الفرائض المطلوبة.

-أداء السنن الرّواتب.

-الإكثار من الذّكر والاستغفار.

-حضور المجالس والدروس العلمية.

-محاسبة النفس باستمرار على تقصيرها.

-الرضى بقضاء الله وقَدَرِهِ.

 

وقد كتب الباحث الإسلامي أحمد كرار الشنقيطي بحثًا مهمًّا في ماهيَّة النفس، وننقل ونلخّص مما كتب بتصرف:

"لقد تكلم القرآن الكريم عن النفس وخاطبها باعتبار أن أحوالها المختلفة في الشخص الواحد أو في شخص وشخص، مطمئنة..، وأمارة..، ولوامة..، وتكلم عن شيء آخر، وهو الروح، واختلاف الأسماء يدّل -ولا شك- على اختلاف الماهيات.. .

وقد ذكر بعض فقهاء المسلمين أن تركيبة الإنسان هي تركيبة ثنائية: روح (وهي النفس عندهم)، وجسد.. .

ويرى الأستاذ الشنقيطي -معتمدًا على ما فهمه من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والسلف الصالح رضوان الله عليهم- أن الإنسان يتركب من ثلاثة أشياء:

1- بدن: هو بمثابة الآلة (التي تتحرّك وتؤدي).

2- الروح: هي التي تعطي الحياة لهذا البدن، ولا يعلم كُنْهَها (حقيقتها) إلا الله تعالى.

3- النفس: وهي الفاعل الرئيس في الإنسان، وهي التي تسوق البدن إلى حيث تريد، فأمَّارة تَرْتَعُ في وَحْل الشهوات والشبهات، أو مطمئنة تسمو بالذكر والصلوات وسائر القربات، أو لوامة بين هذا وذاك.

 

والنظرة الثلاثية هذه تتكلم عن أربع حالات تتواجد في الإنسان:

-الحالة الأولى: البدن والنفس مجتمعان، ومعهما الروح تبعث فيهما الحياة، وهذه الحالة تتحقق في حياة الإنسان المستيقظ في الدنيا.

-الحالة الثانية: الروح داخل البدن تبعث فيه الحياة، أما النفس فقد توفيت لأنها فارقت البدن، وبالتالي فهي قد انفصلت عن الروح، وهذه الحالة تتحقق عند النوم وفي المرحلة الأولى من الموت.

-الحالة الثالثة: الروح منفصلة عن البدن وعن النفس، فيموت البدن وتموت النفس، وهذه الحالة تتحقق في المرحلة الثانية من موت الإنسان.

-الحالة الرابعة: الروح متصلة بالنفس تمدّها بالحياة، وبالتالي تتعذّب وتتأّلم، أما البدن فهو منفصل عنها، ولذلك يكون ميتًا ثم يتحوّل إلى تراب، وهذه الحالة تتحقق في البرزخ بعد الوفاة إلى أن تقوم الساعة."

(انتهى ما نُقل عن الشنقيطي حفظه الله).. .

 

وأضاف بعض العلماء أيضًا، أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين العقل -ومركزه الدماغ في البدن- والفؤاد (البصيرة) ومركزه القلب في البدن، وهما من مكونات النفس، بالإضافة إلى السمع وأدواته (اللسان)، والبصر وأدواته (العين)، وهما في البدن أيضًا، وهذا ما يفسّر أن نفس الإنسان باستطاعتها التمييز بالعقل والبصيرة واكتساب المعرفة وتزكية النفس والشعور والعواطف والميل للشهوات والتمييز وأخذ المواقف إلى ما هنالك، مما يجعل الإنسان مسؤولًا عن هذه الأفعال.

 

وبهذا نستطيع القول بأن ماهيّة النفس من الغيب، لا يعلمها إلا الله تعالى، ولكن يستطيع الإنسان التحكّم في أفعالها كما أمر الله تعالى.