علمتني سورة

ما تحصده أجسادنا من الطاعات تحرقه ألسنتنا من الزلات.

« All Events

المقاصد الكلية للشريعة (الدين)

 

 

أولًا: تعريف المقاصد: المقاصد لغة: جمع مقصد بمعنى الغاية، والإرادة، والهدف والاعتزام.

ويأتي بمعنى التوسط والاعتدال، كما في قوله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...﴾ لقمان:19.

 

الشريعة في اللغة: هي مورد الناس للاستقاء، وقيل: المواضع التي ينحدر الماء منها، ثم استعير لكل طريقة موضوعة بوضع ثابت (شرع من عند الله) لنبي من الأنبياء.

 

الشريعة في الاصطلاح: عرفها الآمدي بأنها: «ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه في الديانة، وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله».

 

تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية: الغايات والأهداف التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم. 

  • عرفها الإمام الغزالي بأنها:  «المحافظة على مقصود الشرع من الخَلْق، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وعرضهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم».
  • وعرفها الإمام الرازي بأنها: «رعاية المصالح».
  • وعرفها الآمدي بأنها: «جلب مصلحة، أو دفع مَضَرَّة، أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد؛ لتعالي الرب تعالى من الضرر والانتفاع».

 

وبعد عرض هذه التعريفات عند الأصوليين يمكن أن يقال بأنها: «الغايات والأهداف التي وضعها الشارع لأجل تحقيق مصالح العباد، ودرء المفاسد عنهم».

 

 

قسم علماء الأصول المقاصد إلى أقسام كثيرة، منها:

 

أ- تقسيم المقاصد باعتبار المصالح:

تكاليف الشريعة ترجع على حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثية، الأول: أن تكون ضرورية، الثاني: أن تكون حاجية، الثالث: أن تكون تحسينية.

 

أولًا: المقاصد الضرورية: هي التي لابد منها في القيام بمصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهريج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة، والنعيم، والرجوع بالخسران المبين، وتكون حالة الأفراد والأمة على غير الحالة التي أرادها الشارع منها.

والراجح عند الأصوليين أن هذه الضروريات هي خمس، على النحو الآتي:

الدين– النفس– العقل – النسل – المال. (وهذا التقسيم من أهم وأرجح التقسيمات، ويجب حفظها)؛ ذلك لأنه لو عدم (الدين) لعدم ترتب الجزاء المرتجَى في الآخرة، ولو عدم المكلف (النفس) لعدم من يتدين، ولو عدم (العقل) لارتفع التدين، ولو عدم (النسل) لم يكن هناك بقاء في الدنيا، ولو عدم (المال) لم يبق هناك عيش فيها.

 

 

1- حفظ الدين: والمراد الحفظ الحاصل من ثلاثة معانٍ: الإسلام، والإيمان، والإحسان.

فمقصد حفظ الدين من أهم مقاصد الشريعة، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56، أي: ليكونوا عبادًا (عبيدًا)، ولا يكون العبد عبدًا ما لم يعرف ربه بالربوية، ونفسه بالعبودية، ولابد أن يعرف نفسه وربه، فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء.

فالدين مصلحة ضرورية للناس؛ لأنه ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بأخيه ومجتمعه؛ ولذلك تعددت وسائل حفظ بنفسه، وعلاقة الإنسان بأخيه ومجتمعه، وكذلك تعددت وسائل حفظ الدين من جانب الوجود (بقاءه)، ومن جانب العدم (أي عدم زواله)، فمن جانب الوجود على سبيل الإجمال العمل به (بالدين)، والحكم به، والدعوة إليه، والجهاد من أجله. ومن جانب العدم عقوبة المرتد، عقوبة المبتدع، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

 

2- حفظ النفسوالمقصود بحفظ النفس تعظيم النفس، وإحيائها في القلوب ترهيبًا عن التعرض لها، وترغيبًا في المحاماة عليها.

ومعنى حفظ النفوس حفظ الأرواح من التلف أفرادًا وعمومًا؛ لأن العالم مركب من أفراد الإنسان، وفي كل نفس خصائصها التي بها بعض قوام العالم.

والمقصود بالنفس التي قصد الشارع المحافظة عليها هي النفس المحترمة المعبر عنها بالمعصومة الدم في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ...﴾ الإسراء:33، وقوله: إلا بالحق معنى بما أباح قتلها له من أن تقتل نفسًا، فتقتل عقابًا لذلك العمل، أو تزني وهي محصنة، فترجم، أو ترتد عن دينها الحق فتقتل، أما النفس غير المعصومة كنفس العدو المحارب، والقاتل العمد عدوانًا فلا يجب حفظ حياتها؛ لأنها لو حفظت حياتها لأدت إلى تضييع حياة نفوس أخرى، فيتقدم الصالح العام على الصالح الخاص عند التعارض.

وللنفس وسائل لحفظها من جانب الوجود ومن جانب العدم، فأما من جانب الوجود إجمالًا: إقامة أصله بشرعية التناسل، وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب، وذلك ما يحفظه من داخل، والملبس والمسكن، وذلك ما يحفظه من الخارج.

أما عن جانب العدم إجمالًا: فبتحريم الاعتداء على الأنفس والأعضاء، ووجوب القصاص، وتحريم الانتحار، وتعريض النفس للهلاك، والضرب على أيدي قطاع الطريق، إلى ما هنالك.

 

3- حفظ العقل: والعقل نعمة كبرى أنعم الله بها على الإنسان، وميّزه عن الحيوان، فإذا فقد الإنسان عقله أصبح كالبهيمة يساق إلى حتفه وهو لا يشعر، والمحافظة على سلامة العقل من المفسدات أمر متفق عليه.

وللعقل وسائل حفظ من جانب الوجود والعدم، فأما التي في جانب الوجود كحفظه بالعلم والتعلم، والحث على النظر والتفكير والتأمل، وأما التي في جانب العدم فكتشريع حد الخمر، وتحريم النبيذ وسائر المسكرات والمغيبات العقلية كالمخدرات، وتحريم معوقات العقل الفكرية والمعنوية، كالسحر والشعوذة والكهانة والكفر والشرك.

 

4- حفظ النسلاختلف الأصوليون في تسميته بالنسب أو النسل.

إن حفظ النسل يكون بحفظ ذكور الأمة من الإخصاء (عمليات نزع الذكورة)، ومن ترك مباشرة النساء باطراد العزوبة، وأن تحفظ إناث الأمة من قطع أعضاء الأرحام التي بها الولادة، أما حفظ النسب فهو الذي لأجله شرعت قواعد الأنكحة (الزواج)، وحرم الزنا، وأوجب له الحد، وما ورد في شروط النكاح (الزواج).

ولحفظ النسل وسائل من جانب الوجود، ومن جانب العدم, فأما التي من جانب الوجود فكتشريع التناسل، والفحص الطبي قبل الزواج والتطعيم وغيرها، أما التي من جانب العدم، فبإقامة حد الزنا، وتحريم اللواط، ومنع الإجهاض.

 

5- مقصد حفظ المال: والمراد بحفظ المال هو حفظ أموال الأمة (والأفراد) من الإتلاف، ومن الخروج إلى أيدي غير الأمة بدون عوض، وحفظ أجزاء المال المعتبرة عن التلف بدون عوض.

وقيل معناه: صيانته، والمحافظة عليه من التلف والضياع والنقصان، والعمل على تنميته وتطويره، والانتفاع به في حاجات الدين والدنيا.

والمال الذي قصد الشارع حفظه هو المال المحترم، الذي اعترف الشارع بقيمته الذاتية، ويباح الانتفاع مع كل طرائق الانتفاع المشروعة، وهو محترم ومصون وتجب حمايته، ومن تعدّى عليه غرم، وألزم بقيمته أو مثله على حسب الأحوال والقواعد الشرعية.

ولحفظ المال وسائل من جانب الوجود، وأخرى من جانب العدم، فأما التي من جانب الوجود فكالمعاملات الشرعية التي تكفل الحصول عليه، وإحياء الموات (من الأراضي والحرث)، والاصطياد في البر والبحر والجو، أما التي من جانب العدم، فكالمنع من التعدي على حق الغير، والضمان، ومعاقبة السارق، وحد المحاربة.

 

 

 

 

 

ثانيًا: المقاصد الحاجيَّة:

والمقاصد الحاجية تلي المقاصد الضرورية، فتأتي في المرتبة الثانية، وهي مفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة، ولكن لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.

والمقصود بالمقاصد الحاجية هو ما تحتاج الأمة إليه لاقتناء مصالحها، وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لما فسد النظام، ولكنه كان على حالة غير منتظمة؛ فلذلك كان لا يبلغ مرتبة الضروري، وتجري الحاجيات في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات على ما وجد في الضروريات من حفظ الكليات الخمس.

فمثلًا، بالنسبة للدين يظهر في التيمم والقصر والجمع، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض، وبالنسبة للنفس يظهر في الرخصة للمضطر في أكل الميتة، وشرعية المواساة بالزكاة، وإباحة الطلاق والخلع؛ وعلى الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض، وبالنسبة للمال يظهر في الترخيص في الغرر واليسير والجهالة والسلم والقرض والشفعة.

وبالنسبة للعقل يظهر رفع الحرج عن المكره.

 

 

ثالثًا: المقاصد التحسينية:

وهي ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والزوائد، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات، وقيل هي: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تألفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.

والتحسينات تقع في مرتبة الكمال للمرتبتين التي قبلها من الضروريات والحاجيات، فهي الأخذ بما يليق من المحاسن ومكارم الأخلاق، مما يضفي على الشريعة من أكمل الأوصاف، وما يتناسب في تحقيقها على أبهج الصور  والعادات ما يميزها ويرتقي بالمكلفين أحوالًا.

وتجري التحسينات أيضًا في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات، وعلى ما وجد في الضروريات والحاجيات من حفظ للكليات الخمس.

فبالنسبة للدين كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات، وأخذ الزينة من اللباس.

وبالنسبة للنفس كالرفق والإحسان، وآداب الأكل والشرب.

وبالنسبة للعقل كمباعدة الخمر ومجانبتها.

وبالنسبة للنسل كالإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان.

وبالنسبة للمال كأخذه من غير إشراف نفس، والتورع في كسبه واستعماله، والبذل منه على المحتاج.

 

 

 

 

وهناك تقسيمات أخرى للمقاصد:

ب- المقاصد باعتبار العموم والخصوص تنقسم إلى مقاصد عامة، ومقاصد خاصة ومقاصد جزئية:

 

أولًا: المقاصد العامة:

وهي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها.

ومن المقاصد العامة:

1- عبادة الله الواردة في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ..﴾ الذاريات:56. فالمقصد الشرعي من وضع الشريعة: إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا.

2- عمارة الأرض الواردة في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ﴾ هود:61.

3- خلافة الإنسان في الأرض الواردة في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة:30.

4-الابتلاء الوارد في قوله تعالى: ﴿... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...﴾ الملك:2.

وهناك من المقاصد العامة الكثير: كالعدل والمساواة وحرية الفرد والحقوق الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

 

ثانيًا: المقاصد الخاصة:

وهي الأهداف والغايات والمعاني الخاصة بباب معين من أبواب الشريعة، أو أبواب متجانسة منها، أو مجال معين من مجالاتها، ومن أمثلتها مقاصد العبادات والمعاملات والجنايات، وما يتفرع من هذه الأقسام كالمقاصد المتعلقة بالصلاة والصيام والزكاة والبيع والإجارة.

 

ثالثًا: المقاصد الجزئية:

وهي كل ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي من إيجاب، أو تحريم، أو ندب، أو كراهة، أو إباحة، أو شرط، أو سبب، وهي موجودة ضمن كتاب قواعد الأحكام للعز بن عبدالسلام، وغيره.

 

 

 

 

ج- وقسم ابن عاشور أيضًا المقاصد باعتبار القطع والظن إلى مقاصد قطعية وظنية ووهمية:

أولًا: المقاصد القطعية:

وهي التي دلت عليها أدلة من قبيل النص الذي لا يحتمل تأويلًا، والتي تواترت على إثباتها طائفة عظمى من الأدلة والنصوص، كالأمن وحفظ الأعراض وصيانة الأموال وإقرار العدول.

ثانيًا: المقاصد الظنية:

وهي التي تقع دون مرتبة القطع واليقين، والتي اختلف حيالها الأنظار والآراء، كمقصد سد الذريعة في إفساد العقل، والذي نأخذ منه تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار فتكون تلك الدلالة ظنية.

ثالثًا: المقاصد الوهمية:

وهي التي يتخيل فيها صلاح وخير وهو عند التأمل ضرر؛ إما لخفاء ضرره مثل تناول السجائر وبعض الأدوية من المسكنات والمهدئات.

 

 

 

د- وقد قسم الشاطبي أيضًا المقاصد إلى مقاصد أصلية ومقاصد تبعية:

 

والحق: أن هذه الأقسام كلها ترجع إلى ثلاثة: مقاصد ضرورية، ومقاصد حاجية، ومقاصد تحسينية، والله أعلم.