القواعد الفقهية هي: الأحكام الكليّة والأساسية للشرع، وتضمُّ عددًا من الصور الجزئية التي تدخل تحت موضوعها، وتنطبق عليها الأحكام نفسها، وهي:
قاعدة (1): الأمور بمقاصدها.
قاعدة (2): اليقين لا يزول بالشك.
قاعدة (3): المشقة تجلب التيسير.
قاعدة (4): الضرر يُزال.
قاعدة (5): العادة محكمة.
القاعدة (الأولى) الأمور بمقاصدها:
الأمور بمقاصدها أحد أهم قواعد الفقه الأساسية، والأمور بمعنى: الأحكام الشرعية العملية المتعلقة بالمكلف، وتشمل: العبادات والمعاملات، ومعنى هذه القاعدة: أن الأحكام الشرعية تتعلق بمقاصدها.
الأصل في هذه القاعدة الحديث الشريف حول النية، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات»، كما أن (الكلام) في اصطلاح علماء اللغة هو: الألفاظ المنطوقة التي يقصد منها معنى، ولا عبرة شرعًا بكلام النائم؛ لعدم القصد.
المقاصد:
المقاصد بمعنى: ما يراد من الشيء، وفي علم أصول الفقه نوعان:
1-2 مقاصد الشارع بمعنى: أن الله تعالى وضع الشرع لعباده، متضمنًا أحكامًا كلية تستفاد منه، (أي من الشرع: الكتاب والسنة).
2-2 مقاصد المُكلّف باعتبار: أن الأحكام الشرعية مرتبطة بقصد المُكلّف.
مقاصد المكلف:
القصد بالنسبة للمُكلّف أي: ما يقصده المكلف في عباداته ومعاملاته، فالتكليف معناه: تعلُّق الأحكام الشرعية بالمكلف، بمعنى: أن الله تعالى هو الذي شرع الأحكام ليفعل المكلف ما يراد منه، ومنها: القصد المتعلق بفعل المكلف.
(أ) القصد المتعلق بالعبادات:
القصد في العبادات بمعنى: النية، فلا تصح العبادة إلا بها؛ لأن المكلف بعبادة الله تعالى ملزم بأن يجعل عبادته خالصة لله، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ البيّنة:5، ويدل عليه حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، وتبنى عليه قاعدة فقهية متعلقة بالعبادات هي: كل عبادة لا تصح إلا بالنية، وتدخل ضمن هذه القاعدة مسائل وأحكام العبادات.
النية في العبادات:
النية هي: قصد الشيء مقترنًا بفعله، وهي لازمة في العبادات؛ فلا تصح إلا بها، ووقتها: أول العبادة، وتكون في أبواب العبادات مثل:
الطهارة، منها:
في الوضوء النية لازمة فلا يصح إلا بها، ووقتها عند غسل أول جزء من الوجه.
في الغسل عند غسل أول جزء من البدن.
وفي الصلاة النية عند تكبيرة الإحرام، إلى ما هنالك.. .
(ب) القصد المتعلق بالمعاملات:
القصد المتعلق بالمعاملات مثل: البيع والنذر واليمين وغير ذلك. وغالبًا ما يكون القصد في المعاملات بمعنى: إجراء الفعل، وقد يحتاج إلى نية في بعض الأحكام. ويدخل ضمن هذا قواعد من أبواب فقه المعاملات منها: أن اللفظ الصريح لا يفتقر إلى نية، بل يعتبر فيه قصد إجراء اللفظ، ومنها: أن الفعل العمد لا يحتاج إلى نية، مثل: نية القنية (الاقتناء)، إذا نوى بالمال الذي يملكه الاحتفاظ به فقط، دون أن يتاجر به، كالبيت الذي يسكنه أو السيارة التي يستعملها، فهذا الاقتناء حلال ولا زكاة فيه، وقد يكون الاقتناء حرامًا، مثل: أواني الذهب والفضة التي يتخذها الشخص ويحتفظ بها ولا يستعملها؛ لأن استعمالها حرام، وما حرم استعماله حرم اقتناؤه.
نية التجارة:
فمن امتلك مالًا وهو يتاجر به فهو مال تجارة عملًا بالظاهر وتجب الزكاة فيه، لكن إذا اقتنى مالًا ولم يتاجر به فإن كان مما تجب فيه الزكاة ولم ينو به التجارة =تعلقت الزكاة بالمال، وإن كان مما لا تجب فيه الزكاة (أقل من النِصَاب) فإن نوى به التجارة فهو مال تجارة.
القاعدة (الثانية): اليقين لا يزول بالشك:
معنى هذه القاعدة: أن ما هو مبني بيقين لا يحكم بخلافه بأمر مشكوك فيه. والأصل في هذه القاعدة ما تدل عليه الأحاديث النبوية.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» رواه مسلم، أي لا يترك الصلاة بموجب الشك فقط.
- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يَدرِ كم صلى أثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك، وليَبْنِ على ما استيقن» رواه مسلم.
- عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين، فلْيَبْنِ على واحدة، فإن لم يتيقن: صلى اثنتين، أم ثلاثًا فلْيَبْنِ على اثنتين، فإن لم يدر: أثلاثًا صلى أم أربعًا؟ فلْيَبْنِ على ثلاث، ولْيَسجدْ سجدتين قبل أن يسلم» رواه الترمذي.
أمثلة أخرى:
- تيقن في الطهر، وشك في الحدث؛ فهو متطهر.
- تيقن في الحدث وشك في الطهر؛ فهو محدث.
فروع هذه القاعدة:
تدخل ضمن هذه القاعدة قواعد فرعية أخرى في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرَّجة عليها تبلغ حوالي ثلاثة أرباع الفقه، منها:
- الأصل بقاء ما كان على ما كان.
- الأصل براءة الذمة.
- الأصل العدم.
- أصل ما انبنى عليه الإقرار إعمال اليقين واطراح الشك وعدم استعمال الغلبة.
- من شك هل فعل شيئًا أولا؟ فالأصل أنه لم يفعله.
- الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن.
- الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم.
- الأصل في الأبضاع (الوطء) التحريم (وقد أبيح للضرورة وهو النكاح – الزواج).
- الأصل في الكلام الحقيقة.
الأصل بقاء ما كان:
معنى هذه القاعدة: استبقاء الأمر على ما هو عليه، وعدم قبول خلافه إلا ببينه، فما يخالف الأصل دعوى لا تثبت إلا ببرهان متيقن منه، مثل: من تيقن الطهارة وشك في الحدث =فهو طاهر، بناء على قاعدة فرعية هي: من تيقن الطهر وشك في الحدث فالأصل بقاء الطهارة، وسبب ذلك: أن الطهر حاصل بيقين، فلا يزول اليقين بالحدث المشكوك في حصوله. ومثال آخر: في ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان إذا حصل الشك في رؤية هلال رمضان فإن الأصل كمال عدة الشهر، أي: عدد ثلاثين يومًا، فلا يكون الحكم بنقصانه إلا بيقين، وحيث كان نقصان الشهر يومًا أمرًا مشكوكًا فيه فلا تقوم بالشك حُجةٌ، ويبقى الشهر على الأصل وهو تمامه ثلاثون يومًا.
القاعدة (الثالثة) المشقة تجلب التيسير:
معنى هذه القاعدة: أن الأحكام الشرعية مبنية على التيسير، والأصل في هذه القاعدة أدلة منها: قول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ الحج:78.
فروع هذه القاعدة:
- التكليف بالاستطاعة.
- الميسور لا يسقط بالمعسور.
القاعدة (الرابعة) الضرر يزال:
الأصل في هذه القاعدة أدلة، من أهمها حديث: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ»، وهذا الحديث قاعدة شرعية عامة تبنى عليه قواعد أخرى فرعية.
قواعد فروع هذه القاعدة:
- الضرورات تبيح المحظورات.
- الضرورة تُقدَّر بقدرها.
- الضرر لا يزال بالضرر.
- إذا تعارض مَفْسَدَتان رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما.
الضرورات تبيح المحظورات:
معنى هذه القاعدة: أن المحظور (الحرام) يباح أحيانًا للضرورة وفق شروط مخصوصة؛ حيث إن الله تعالى رفع الإصر عن أمة الإسلام، وجعل التكليف بقدر الاستطاعة، فإفطار الصائم المكلف بالصوم في نهار رمضان حرام شرعًا، إلا لعذر كالمرض والسفر، لكن المشقة قد تختلف بعض الشيء عن العذر، فإذا لم يكن الصائم من أصحاب الأعذار، لكنه لو تعرض مثلًا: لعطش شديد يؤدي في الغالب إلى ضرر =فيباح له حينئذٍ أن يفطر للضرورة بقدر حاجته.
والمضطر في المخمصة -أي: عند شدة الجوع- يباح له أن يأكل من الميتة التي هي حرام، بقدر ما يسد به رَمَقَهُ.
أمثلة:
ينبني على هذه القاعدة كثير من أبواب الفقه منها:
- الرد بالعيب، مثاله:
- لو اشترى سلعة، ثم ظهر فيها -بعد القبض- عيب يفوت به غرض صحيح، والعيب ضرر على المشتري =فله أن يرد هذه السلعة، وهكذا عند اختلاف الوصف المشروط.
- فلو اشترى منه جهاز كمبيوتر على أن أنه غير مستعمل، أو لم يفتح من أجل الصيانة، وظهر خلاف ذلك =فللمشتري ردُّه. وهذا الرد بسبب العيب شُرِع دفعًا لضرر المشتري.
- التعزير: هو عقوبة دون الحد وفوق التأديب (وهي عقوبة لدفع الضرر)
ومعنى (دون الحد) أي: أنه عقوبة غير محددة بالشرع، على ما لا يوجب حدًّا. ويرجع إلى القاضي الشرعي في تقديره وتنفيذه، ويشترط فيه أيضًا: ألا يبلغ إلى مقدار أدنى الحدود. فمثلًا: شخص اعتدى على غيره، أو قام بإيذاء غيره بما لا يعد حدًّا، أو سرق دون نصاب، أو شتم بما لا يعد قذفًا، أو غير ذلك، وكل ما يقوم به يُعدُّ إضرارًا بالغير، وليس في الشرع تحديد لعقوبته على ذلك، فحينئذ يكون التعزير هو الوسيلة لدفع الضرر، ويكون التعزير بما يراه الحاكم الشرعي مناسبًا ورادعًا ورافعًا للضرر، بالحبس أو بالزجر أو غيره.
- إفلاس المشتري: فإذا اشترى شيئًا ثم أصبح مفلسًا، وصار عاجزًا عن دفع الثمن كاملًا =فيلزمه رد المبيع.
- الحَجْرُ بأنواعه؛ لأنه دفع ضرر يلحق بالمحجور عليه، أو بالآخرين.
- الشفعة؛ (حق الجار في شراء عقار جاره إذا عرضه للبيع)، لأنها شرعت لدفع ضرر القسمة.
- القصاص وأنواع الحدود والحدود والكفارات.
- الفسخ هو: فرقة بين الزوجين بواسطة القاضي الشرعي، بسبب عيب أو إعسار.
القاعدة (الخامسة) العادة محكمة:
العادة عند علماء أصول الفقه: بمعنى المعتاد بالتكرر والاستمرار، أو العرف أو ما هو بخلاف العبادة، ويشمل: الفعل المقرون بالمواظبة، أو العرف (المستقر) والسنن الزوائد عند الحنفية، وقد تختلف العادة عن العرف من بعض الوجوه، فالعادة الخاصة قد لا تدخل ضمن العرف.
العرف والمعروف: ما تعارف عليه أهل العقول السالمة وليس في الشرع ما يخالفه.
وهناك قاعدة أن كل ما جاء في الشرع مطلقًا ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة =يرجع للعرف، والأصل في هذه القاعدة أدلة مثل: قول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ البقرة:233، وأدلة أخرى كثيرة.
الحكم بالعادة:
الحكم بالعادة بمعنى: أن يحكم بما جرت به العادة، ويكون هذا الحكم شرعيًّا، عند عدم وجود دليل شرعي يحدده بخصوصه، وبشرط ألا يخالف الشرع.
استقراء العادة:
بمعنى: التتبع والفحص، وفي الاصطلاح: تتبع الجزئيات للحصول منها على حكم كلي. ويكون استقراء العادة للحصول على حكم كلي من أحكام جزئية متفرقة تشترك في نفس الحكم، ومن أمثلة ذلك: استقراء الإمام الشافعي للعادة في باب الحيض، مثل: أقل الحيض وأكثره وغالبه، وأقل زمن لإمكانه، وغير ذلك في أبواب أخرى.
أنواع العادات:
العادة بحسب الاطراد أي: الاستمرار والتكرر، قد تكون عامة، مثل: عادة الإنسان، وقد تكون مخصوصة من وجه مثل: عادة الناس من العرب، أو الرجال أو النساء، أو في بعض البلدان، أو الأشخاص، أو غير ذلك، والعادة إما أن تكون معروفة أو غير معروفة، فالمعروفة هي التي يكون العلم بها متعارفًا عليه، وتسمى: عرفًا أو معروفًا، وغير المعروفة بخلاف ذلك.
وهناك قواعد فرعية أخرى كثيرة مشتقة أو مستندة إلى هذه القواعد الخمسة الكلية، يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه.