(من كتاب إلى القرآن الكريم لمحمود شلتوت رحمه الله)
يجب معرفة ما هو من مهمة القرآن الكريم فيطلب منه، وما ليس من مهمته فلا ننتظره منه ولا نُكْرِهُ آياته عليه.. .
وإن نظرة في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ الإسراء:9 =لترينا أن مقاصد القرآن الكريم تدور حول نَواحٍ ثلاث: ناحية العقيدة، وناحية الأخلاق، وناحية الأحكام.
1- فالعقائد: تطهِّر القلب من بذور الشرك والوثنية، وتربطه بمبدأ الروحية الصافية، وهي تشمل ما يجب الإيمان به:
- 1-1في جانب الله تعالى من صفات الجلال والكمال (التوحيد).
- 1-2في جانب الوحي والرسالات من الملائكة والكتب والنبيين.
- 1-3في حالات اليوم الآخر من البعث والجزاء.
2- والأخلاق: تهذِّب النفسَ وتزكِّيها، وترفع من شأن الفرد والجماعة، وتُقوِّي عُرى التآخي والتعاون بين بني الإنسان، وتشمل: الصدق، والصبر، والوفاء بالعهد، والحلم، والجود، والرحمة، وغيرها مما يحقق في الإنسان ثمرة إيمانه بالله وصفاته التي يحب أن يكون عليها عبادُه.
3- أما الأحكام: فهي ما بيّنه الله في كتابه، أو بيّن أصوله من النُّظُم التي يجب اتِّباعها في تنظيم علاقة الإنسان بربّه وعلاقته بأخيه الإنسان، وتشمل:
3-1 أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحجّ، واليمين، والنذر، ومما يدخل في دائرة العبادات التي تغذي الإيمان وتنمي ثمراته الطيبة.
3-2 أحكام الزواج والطلاق، وما يتبعهما من مهر، ونفقة، ورضاعة، ونسب، وعدّة، ووصية، وإرث وما إلى ذلك مما يدخل في دائرة الأحوال الشخصية أو أحكام الأسرة.
3-3 أحكام البيع، والإجارة، والرهن، والمداينة، وما إلى ذلك مما يدخل في دائرة المعاملات المالية.
3-4 أحكام الجنايات والجرائم كالقتل والسرقة، والإفساد في الأرض، والزنا، والقذف، وما إلى ذلك مما يدخل في دائرة العقوبات.
3-5 أحكام الحرب والسلم وما يتبعهما من غنائم وأسرى، ومعاهدات، وما إلى ذلك مما يدخل في دائرة الأحكام الدولية العامة.
وقد عرض بعد هذا كله لمصادر التشريع، وبيّن أنها الكتاب والسنة واجتهاد أولي الرأي، أرباب العلم بالمصلحة في نواحي الحياة.
كما عرض لأساس الحكومة في الإسلام وهي الشورى، وجعلها من أخص أوصاف المؤمنين.
أما الأساليب التي اتخذها سبيلًا للدعوة إلى تلك المقاصد فهي:
أولًا: الإرشاد إلى النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ لتعرف أسرار الله في كونه، وإبداعه في خلقه، وبذلك تمتلئ القلوب إيمانًا بوجوده وعظمته عن نظر واقتناع، لا عن تقليد وابتداع؛ ولهذا السبيل كرّم الله العقل، وفتح له باب البحث عن خواص الأجسام وأسرار الكائنات في الأرض، والسماء، والماء، والهواء؛ كي ينتفع بها في حياته ويستخدمها في التعبير والإنشاء.
ثانيًا: قصص الأولين أفرادًا وأممًا، الصالحين منهم والمفسدين، وقد أورد القرآن في ذلك كثيرًا مما يثير العظة والاعتبار ويرشد إلى سنن الله في معاملة عباده، وهذا هو مقصد القرآن من ذكر قصص الماضين..، فلم يذكره على أنه تاريخ يحدد الزمان والمكان والأشخاص، ويرتب الوقائع ويبيّن الأسباب والنتائج، ولم يذكره على أنه أساطير تتحدث عن الغرائب والأعاجيب التي يسمر بها الناس في النوادي والمجتمعات.
ثالثًا: إيقاظ الشعور الباطني في الإنسان، فيندفع الإنسان بوحي هذا الشعور إلى التساؤل عن مبدئه، وعن مادته وعن حياته، وعن مآله ومصيره، حتى يصل إلى الاعتراف بخالق القوى والقدر، واضع الأسباب والمسببات، ربّ الأرض والسماوات، مدبّر الأمر ومصرّفه، وتلك الفطرة التي ذكرها الله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ الروم:30.
رابعًا: أسلوب الإنذار والتبشير، أو الوعد والوعيد، وللقرآن في ذلك طريقان:
أحدهما: الوعد والوعيد عن طريق الحياة الدنيا، يعد المؤمنين الصالحين بعموم السلطان والتمكين في الأرض، وينذر الجاحدين المفسدين بتقلّص العز وانتزاع الملك، وتسليط الأعداء.
وثانيهما: الترغيب بنعيم الآخرة الدائم الذي لا ينقطع، الصافي الذي لا يشوبه كدر، والترهيب من الكفر والإفساد في الأرض والطغيان على عباد الله بعذابها الدائم المهين.
هذه مقاصد القرآن الكريم، وتلك أساليبه في الدعوة، فعلينا أن نتجه إلى القرآن فنرتّل آياته، أو نسمعها، ونستخلص أحكامه، ونعرف أغراضه..، وعسى أن نجد في هذا ما يقرّب لنا الأمر، ويسهّل علينا التفقُّه بالقرآن، فنعمل به في خاصة أنفسنا وأهلينا، ومواطننا؛ وبذلك نحصل على رضاء الله وإسعاده في الدنيا والآخرة.. .
﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ الأعراف:170.
وعن نفس الموضوع ذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله أن المحاور الخمسة للقرآن الكريم هي:
- الله الواحد.
- الكون الدّال على خالقه.
- القصص القرآني.
- البعث والجزاء.
- والتربية والتشريع.
وانتهى فضيلة الإمام إلى أنها أمهات لمسائل أخرى كثيرة تندرج تحتها..، وفي هذا يلتقي مع فضيلة الإمام محمود شلتوت، حيث ذهب كثير من المسلمين يعالجون تفسير القرآن، معالجة جزئية حرفية، دون أن يبسّطوا الحقائق القرآنية الكبرى بسطًا يرتفع إلى مستواها، ويستمد منها القيم القرآنية، التي وضعها الله لتقود المسلمين ــ بالقرآن ــ إلى التي هي أقوم.. والله أعلم.. .