(منقول بتصرّف من كتاب ”أنبياء الله“ للكاتب أحمد بهجت -رحمه الله-)
أنبياء الله تعالى هم أمر التشريع، هم رسله إلى البشر.. وهم أساسًا بشر.. غير أنهم أنقى البشر،
ولو أن الله تعالى لم يرسل أنبيائه إلى الناس لألزمهم حجته، ولكان ذلك عدلًا منه سبحانه؛ ذلك أن الله قبل إرسال أنبيائه أرسل كلماته إلى العقل البشري وألزمه الحجة.
إن الكون كله هو كتاب الله المفتوح، وهو كتاب يمتلئ بالكلمات المعجزة الدالة على وجوده سبحانه،
والإنسان ذاته -بالنسبة لذاته- آية من آيات الله، وكلمة من كلماته تلزمه الحجة.
ولو طاف الإنسان داخل نفسه، أو ساح بذهنه في آفاق الكون لرأى كلمات الله وآياته، ولو استجمع الإنسان نقاءه الداخلي وأنعش به قدرته على التذكر فسوف يرى كلمات الله يوم أخذ العهد على آدم وذريته، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ﴾ الأعراف:172، إذن تلزم الإنسان الحجة، فلماذا يرسل الله تعالى أنبياءه إلى الناس إذا كان قد ألزمهم الحجة؟
الجواب: أن أنبياء الله تعالى جميعًا رحمة، لا يعامل الله عباده بالعدل وحده؛ لأن الله أكبر،
إنما يعاملهم بالرحمة، والأنبياء هم الرحمة، يُبعث كل نبي رحمة لقومه أو زمانه، حتى إذا جاء آخر الأنبياء جاء رحمة للعالمين، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء:107.
ولولا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم لما عرفنا قصص الأنبياء والرسل كما وقعت حقًّا؛ ذلك أن قصص الأنبياء تعرضت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لعبث لم يسلم منه نبي ولا رسول، وامتدّ التحريف إلى سيرة الأنبياء والرسل، فجاءت بشكل لا يحفظ للأنبياء والرسل وقارهم أو عصمتهم.
تحكى صحف اليهود المحرفة عن نبي يشرب الخمر ويزني بابنته، وتحكى عن نبي يرسل قائد جيشه إلى الحرب كي يقتنص امرأته، وتحكى عن نبي ينكفئ على عبادة الأصنام بعد أن تزوج وهو شيخ من صبية حسناء تعبد صنمها، فآثر إرضاءها بعبادة صنمها على إرضاء خالقه (والعياذ بالله)، وتحس طيلة الوقت وأنت تقرأ هذه الصحف المحرّفة أنك أمام عقل بشري ملوث ومُغرِض.. عقل مرتشٍ يكذب عمدًا على الله وأنبيائه لأغراض نجهلها الآن، وإن كانت لليهود أيامها مصالح ظاهرة في ذلك.
فإذا غادرت صحف اليهود المحرّفة إلى صحف النصارى وأوراقهم الحالية -العهد الجديد- وجدت لديهم اتجاهًا عكسيًّا يكاد يكون ردّ فعل للاتجاه الأول.. إنهم يكرمون نبيهم عيسى إلى الحدّ الذي تنسبه بعض فرقهم بالبنوّة إلى الله (والعياذ بالله)، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
لقد ضاع حجم الأنبياء والرسل الحقيقي بين التصغير والتكبير.. ولولا القرآن ما عرفنا حقيقة الأنبياء.
حقيقة الأنبياء والرسل أنهم خير البشر، ولكنهم في نهاية الأمر -كما قال القرآن الكريم- بشر يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام ويعيشون ويموتون، لا يختارون أنفسهم للرسالة، لا يصلون إلى الرسالة نتيجة كسب وقصد وجهد أو اختيار، إنما يختارهم الله.. يختارهم لعلمه السابق أنهم أنقى من في الوجود -في وقتهم- وأفضل، تستوي في ذلك عقولهم وقلوبهم، بعدها يبعث إليهم رسالاته، ويضيفهم الله إلى نفسه تشريفًا وتكريمًا فيسميهم رسل الله، وهم لا يخطئون فيما يرسل به الله؛ لأن لهم عصمة من نوع معين، كما أن لهم معجزات من أنواع عديدة.
أما عصمة الأنبياء والرسل، فتعني أنهم لا يرتكبون خطيئة كبيرة ولا صغيرة.. لا قبل البعثة ولا بعدها، إنهم يحلّقون في مستوى من الكمال لا يهبطون عنه وإن ساروا فيه صعودًا.. وإذا كان الله تعالى يعاتب أنبياءه ورسله أحيانًا فإنما يفعل ذلك وصولًا بهم إلى مستويات أكبر من الكمال لا ندريها، ولا نحلم بها.
ولما كان الأنبياء والرسل هم أكثر الناس معرفة لله، فإن واجبهم يقتضيهم أن يشعروا بأنهم مقصرون في حقّ الله؛ لأن الإنسان لو عبد ربه ملايين السنين لما كان ذلك كافيًا للشكر على نعمة الله في نصف ساعة؛ ولهذا يستغفر الأنبياء والرسل باستمرار.. .
ونحن نعرف أن الإنسان لا يعاقب على النسيان والسهو، ولكن الأنبياء والرسل يعاقبون على ذلك، لقد نسي سيدنا آدم فأهبطه الله من الجنة، ولو لم يكن نبيًا لما آخذه الله على النسيان.
وتختلف درجات الأنبياء والرسل:
قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ البقرة:253، وقال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ الإسراء:55، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ الأحزاب:7.
ورغم اختلاف درجات الأنبياء والرسل عند الله تبارك وتعالى، ووجود خمسة منهم هم أولو العزم، وهم: سيدنا محمد بن عبدالله.. وأسيادنا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام.. رغم اختلاف درجات الأنبياء والرسل عند الله تعالى، فإن المؤمنين مأمورون بالوقوف عند حدّ الأدب، وعدم التفريق بين أحد من أنبيائه ورسله، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ البقرة:285.
ولقد جرتْ سنة الله في أنبيائه ورسله أن يؤيدهم بالمعجزات الواضحة والخوارق، ففي الأنبياء والرسل من كانت معجزته الطوفان، وفيهم من كانت معجزته ناقة وُلدت من جبل، وفيهم من كانت معجزته صرخة هزّت الدنيا وأهلكت الكافرين، وفيهم من كانت معجزته عصا تتحول إلى ثعبان، وفيهم من كانت معجزته إحياء الموتى وتكليمهم، وفيهم من كانت معجزته كتابًا معجزًا (القرآن الكريم).
وكانت معجزات الأنبياء والرسل جميعًا تختلف عن رسالتهم، باستثناء واحدة منها هي معجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..
إن طبّ سيدنا عيسى ومعجزته في شفاء الأمراض كانت شيئًا يختلف عن إنجيله، وعصا سيدنا موسى التي تتحوّل إلى حيّة جبارة كانت شيئًا يختلف عن توراته، إلا أن الله شاء أن يجعل معجزة الرسالة الأخيرة لسيدنا محمد هي نفس جوهر هذه الرسالة، توحدّت حقيقة الرسالة ومعجزتها في كتاب واحد هو القرآن الكريم.
وسوف نلاحظ أن الله عز وجل يأخذ عباده بالرحمة والرفق.. وفي فجر التاريخ البشري كانت البشرية تمّر بطور الطفولة، وفي هذا الطور لا يصدّق الأطفال إلا الأشياء الخارقة العجيبة، وفي هذا الطور لا يؤمن الناس إلا إذا انبهرت أعينهم قبل عقولهم، واندهشت حواسهم قبل حكمتهم، فساق الله تعالى معجزات أنبيائه ورسله الحسيّة إلى الناس، وكان الناس هم الذين يطلبون الآيات والخوارق.. وكان الله تعالى يستجيب لعباده زيادة في الرحمة؛ لمعرفته أنهم ما زالوا في طور الطفولة.
وكلما نضجت البشرية في شيء، جاءت معجزات الأنبياء والرسل مستجيبة لهذا النضج، فكان الله تعالى يعطي كل رسول من الآيات ما يتفق مع حال قومه وأهل عصره وعلوم زمانه.. أو يعطي كل رسول من الآيات ما يستهدف إثبات شيء للناس.
كان قوم فرعون أهل علوم ورياضة وطبيعة وفلك.. كانوا أهل صناعة ساحرة، كانوا سادة عصرهم في العلوم والسحر؛ ولهذا أعطى الله تعالى سيدنا موسى عليه السلام معجزات تتفوّق على العلم والسحر، تبدو علمًا وسحرًا ولكنها ليست كذلك؛ الأمر الذي يؤكّد أنها من عند الله.
وكان الرومان أهل سلطان في قوم سيدنا عيسى، وكانوا متقدمين في علوم الطبّ والقانون.. فكانت معجزة سيدنا عيسى شيئًا مثيرًا لدهشة الطّب والقانون معًا.. أن رجلًا مات ينهض من الموت ليكلّم عيسى.. أن الطّب والقانون معًا يتدليان بالدهشة أمام هذه الخارقة التي أعطاها الله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام،
وكذلك كان أهل هذا الزمان يريدون.
فلما تقدمت البشرية، وبدأ عقلها ينضج، وصارت الكلمة فيها هي مفتاح الحياة، وصار العلم فيها هو سيد الكون، وصار الكتاب (والمعرفة) فيها شيئًا لا يمكن الاستغناء عنه =شاء الله تبارك وتعالى ألا يقنع البشر بالمعجزات الحسيّة، وأرسل إليهم كتابًا هو ذاته معجزة، كتابًا كل سورة منه معجزة، وكل آية منه معجزة، أسلوبه.. وقيمه.. وتشريعه.. وقصصه.. وأحكامه.. كل ما فيه معجزة حيّة.. لا تموت طالما بقي الإنسان حيًّا يقرأ ويكتب.
إن احترام نضج العقل البشري يستوجب ألا نضغط عليه، نحن نضغط على الأطفال ونرهبهم أو نستميلهم.. لكننا نحاول إقناع الكبار، وتلك كانت ميزة الرسالة الأخيرة.. وذلك كان فضل نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام.
إنه رسم للإنسانية آفاق الكمال الذي تستطيع أن تبلغه كبشرية راقية لديها عقلها، ومن الكتاب الذي أنزله الله على خاتم رسله وأنبيائه، من القرآن الكريم =عرفنا قصص الأنبياء كما وقعت بحق.
لقد جاء المرسلون والأنبياء على فترات زمنية متعددة ليخبر الله من خلالهم أنه الخالق الوحيد، وأنه الواحد الأحد المستحق للعبادة المتفرّد بالربوبية.
والنبي لغة: هو اسم مشتق من النبأ، وهو الخبر، أما اصطلاحًا: فهو الشخص المخبر بالحدث الشارح له، والذي أخبره وأوصاه الله إليه، وقد يبلغ رسالة من قبله وليس بالرسول الذي حمل رسالة جديدة أمر بتبليغها للناس، ومعنى ذلك أن كل رسول نبي بينما ليس كل نبي رسولًا.
وقد جاء في السنّة المطهرة أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر، وهذا العدد الهائل من الرسل والأنبياء يشير في المقابل إلى عدد هائل من الأمم والحضارات التي يستحيل ظهورها واندثارها خلال عشرة آلاف عام فقط! وخصوصًا في ظل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا﴾ النحل:36.
وقد ذكر الله خمسًا وعشرين نبيًا ورسولًا في القرآن الكريم، ثمانية عشر نبيًّا ورسولًا ذُكرت أسماؤهم في موضع واحد من القرآن في سورة الأنعام، وهم:
إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ الأنعام:82-86.
أما بقية الأنبياء فقد ذكروا في سور متفرقة، وهم : آدم وهود وصالح وشعيب وإدريس وذو الكفل ومحمد صلى الله عليهم أجمعين .
- آدم: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا﴾ آل عمران:33.
- هود: قال تعالى: ﴿وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ هود:50.
- صالح: قال تعالى: ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ هود:61.
- شعيب: قال تعالى: ﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ هود:84.
- إدريس وذو الكفل: قال تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ﴾ الأنبياء:85.
- محمد: قال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ آل عمران:144. وقد ذكر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أربع مواضع.