علمتني سورة

ما تحصده أجسادنا من الطاعات تحرقه ألسنتنا من الزلات.

« All Events

قصة خلق سيدنا آدم عليه السلام والبشرية من بعده

(منقول بتصرّف من كتاب "أنبياء الله" للكاتب أحمد بهجت -رحمه الله-)

 

انصرفت مشيئة الله تعالى إلى خلق آدم.. قال الله تبارك وتعالى للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ البقرة:30.

اختلف الناس في معنى خلافة آدم.. فمِن قائلٍ: إنه خليفة لجنس سبق على الأرض، وكان هذا الجنس يفسد فيها ويسفك الدماء.. ومن قائلٍ: إنه كان خليفة لله تعالى، بمعنى أنه خليفة في إمضاء أحكامه وأوامره؛ لأنه أول رسول إلى الأرض.. وهذا ما نعتقده.

سأل أبو ذرٍّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مَن آدم؟ أنبيًّا كان مرسلًا؟ قال: "نعم"، قيل: لمن كان رسولًا ولم يكن في الأرض أحدٌ؟ قال: "كان رسولًا إلى أبنائه".

 

قال تعالى في: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً * قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ *  قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة:30.

وقف المفسرون أمام هذه الآيات وقفة طويلة.. إن الله تعالى يحكي لنا القصة بأسلوب الحوار، وليس من الضروري أن تكون قد وقعت بنفس هذا الأسلوب.. ألا ترى أن الله تعالى يقول في سورة فصلت:

﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ فصلت:11. هل يتصور أحدٌ من الناس أن الله عز وجل قد خاطب السماء والأرض، وردَّتْ عليه السماء والأرض، ووقع بينهما هذا الحوار.. إنما يأمر الله تعالى السماء والأرض فتطيع السماء والأرض..

وإنما صور الله ما حدث بأسلوب الحوار لتثبيته في الذهن، وتأكيد معناه وايضاحه.. واستخدام هذا الأسلوب في قصة سيدنا آدم يوحي بمعنى عميق..

نحن نتصور أن الله تعالى حين قرر خلق آدم حدَّث ملائكته من باب إعلامهم كي يسجدوا له، لا من باب أخذ رأيهم أو استشارتهم.. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.. حدثهم الله تعالى أنه سيجعل في الأرض خليفة، وأن هذا الخليفة ستكون له ذرية وأحفاد.. وقامت الحيرة في نفوس الملائكة الأطهار.. إنهم يسبحون بحمد الله، ويقدِّسون له.. إن الملائكة بفطرتهم البريئة التي لا تتصور إلا الخير والنقاء، قد حسبوا أن التسبيح بحمد الله وتقديسه هو الغاية المطلقة للوجود، وهذه الغاية متحققة بوجودهم هم، وسؤالهم يصور دهشتهم، ولا يعبر عن اعتراض من أيِّ نوع.. ثم رَدَّهم إلى اليقين والتسليم قولُه تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة:30.

ولسوف تفهم الملائكة فيما بعد.. أن آدم نوع جديد من المخلوقات.. وستتحقق بوجوده حكمة عليا لا يدريها أحد غير الله.. وتلك حكمة المعرفة.. قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56، فسرها ابن عباس: ليعرفون، فكانت المعرفة هدف النوع الإنساني وغاية وجوده..

وأصدر الله سبحانه وتعالى أمره إلى الملائكة، فقال إنه سيخلق بشرًا من طين، فإذا سوَّاه ونفخ فيه من روحه فيجب على الملائكة أن تسجد له، والمفهوم أن هذا سجود تكريم لا سجود عبادة؛ لأن سجود العبادة لا يكون إلا لله وحده.. قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ص:71-74.

جمع الله سبحانه وتعالى قبضة من تراب الأرض، فيها الأبيض والأسود والأصفر والأحمر؛ ولهذا يجيء الناس ألوانًا مختلفة.. ومزج الله تعالى التراب بالماء فصار صلصالًا من حمأ مسنون.. وكان ابليس يمر عليه فيعجب أي شيء يصير هذا الطين؟ من هذا الصلصال خلق الله تعالى آدم.. سواه بيديه سبحانه.. ونفخ فيه من روحه سبحانه.. فتحرك جسد آدم ودبّت فيه الحياة.. فتح آدم عينيه فرأى الملائكة كلهم ساجدين له.. ما عدا واحدًا يقف هناك ولم يسجد.. كان ابليس يقف مع الملائكة، ولكنه لم يكن منهم.. كان من الجن.. والمفروض -بوصفه أقل مرتبة من الملائكة- أن تنطبق عليه الأوامر التي تصدر لهم..

 

حكى الله تعالى قصة رفض إبليس السجود لآدم في أكثر من سورة.. قال تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ  ص:75-83.

ثم ما أعجب إبليس وحجته.. إنه يتصور أن النار أفضل من الطين.. فمن أين جاءه هذا العلم، والمفروض أن يكون هذا العلم عند الله، فهو الذي خلق النار والطين ويعرف أيهما أفضل..

كان الله تعالى يعلم أنه سيرفض السجود لسيدنا آدم.. سوف يعصيه.. وكان الله يستطيع أن ينسفه نسفًا، أو يُحيلَه إلى حفنة من التراب.. غير أن الله تعالى يعطي لمخلوقاته المكلفة قدرًا من الحرية لا يعطيه غيرُه أحدًا.. إنه يمنحهم حرية الإنكار وحرية العصيان.

لا ينقص من ملكه سبحانه أن يكفر به الكافرون، ولا يزيد في ملكه سبحانه أن يؤمن به المؤمنون، إنما ينقص ذلك من ملك الكافرين، أو يزيد في ملك المؤمنين.. أما هو سبحانه فتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا..

فهم سيدنا آدم أن الحرية نسيج أصيل في الوجود الذي خلقه الله.. وأن الله يمنح الحرية لعباده المكلفين.. ويرتب على ذلك جزاءه العادل.. .

تعلم سيدنا آدم من الله تعالى الدرس الثاني.. وهو العلم.. ثم أطلعه الله سبحانه وتعالى على حقيقته، وحكمة خلقه، وسر تكريمه.. قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا...﴾ البقرة:31، قيل: علمه أن يسمي الأشياء: هذا عصفور، وهذا نجم، وهذه شجرة، وهذه سحابة، وهذه طائرة، وهذا هدهد، وهذه... إلى آخر الأسماء.. تعلم آدم الأسماء كلها.. .

الأسماء هنا هي العلم.. هي المعرفة.. هي القدرة على الرمز للأشياء بأسماء.. .

غرس الله في نفس سيدنا آدم المعرفة وحبًّا لها لا نهاية له، وهذه هي الغاية من خلق آدم، وهذا هو السر في تكريمه.. .

بعد أن تعلم سيدنا آدم أسماء الأشياء وخواصها ومنافعها.. بعد أن عرف علمها.. عرض الله هذه الأشياء على الملائكة، فقال: ﴿...فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة:31، (يقصد صادقين في رغبتكم في الخلافة)، ونظر الملائكة فيما عرض الله عليهم، فلم يعرفوا، واعترفوا لله بعجزهم عن تسمية الأشياء أو استخدام الرمز في التعبير عنها، قال الملائكة -اعترافًا بعجزهم-: ﴿سُبْحَانَكَ..(أي ننزهك ونقدسك)..لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ البقرة:32، (ردوا العلم كله إلى الله).. قال الله تعالى لسيدنا آدم: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ﴾ البقرة:33، وحدثهم آدم عن كل الأسماء التي عرضها الله عليهم، ولم يعرفوا أسماءها.. ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَالبقرة:33.

أدرك الملائكة أن آدم هو المخلوق الذي يعرف.. وهذا أشرف شيء فيه.. قدرته على التعلم والمعرفة.. وعرف الملائكة لماذا أمرهم الله بالسجود له.. كما فهموا السر في أنه سيصبح خليفة في الأرض، يتصرف فيها ويتحكم فيها.. بالعلم والمعرفة.. أي معرفة بالخالق.. وهذا ما يطلق عليه اسم الإيمان أو الإسلام.. وعلم بأسباب استعمار الأرض وتغييرها والتحكم فيها والسيادة عليها.. ويدخل في هذا النطاق كل العلوم المادية على الأرض.. .ومن المعروف أن كمال الإنسان لا يتحقق إلا بتحصيله ما يستطيعه من معرفة الخالق وعلوم الأرض معًا.. .

 

كان آدم يحسُّ بالوحدة.. ونام آدم يومًا فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة تحدّق في وجهه بعينين جميلتين ورحيمتين، وكانت حواء.. .

كان آدم مخلوقًا طبيعته قائمة ومركبة على عشق المعرفة، وكان ينقل معرفته لحواء، فيحدثها عما يعرفه ولا تعرفه هي.. وأحبته حواء.. وأصدر الله تعالى أمره لآدم وزوجه بسكنى الجنة، قال تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ البقرة:35.

لا نعرف مكان هذه الجنة.. سكت القرآن عن مكانها، واختلف المفسرون فيها على خمسة وجوه:

 قال بعضهم: إنها جنة المأوى، وإن مكانها السماء، ونفى بعضهم ذلك لأنها لو كانت جنة المأوى لحرِّم دخولُها على إبليس ولَمَا جاز فيها وقوعُ عصيانٍ، وقال آخرون: إنها جنة أخرى خلقها الله لآدم وحواء، وقال غيرهم: إنها جنة من جنات الأرض تقع في مكان مرتفع.. وذهب فريق إلى التسليم في أمرها.. والتوقف عندها.. ونحن نختار هذا الرأي.. لأن العبرة التي نستخلصها من مكانها لا تساوي شيئًا بالقياس إلى العبرة التي تستخلص مما حدث فيها.. .

دخل آدم وحواء الجنة، وهناك عاشا حلم الجنس البشري كله، وهناك أيضًا مرَّا بأقسى تجربة.. .

كانت حياة آدم وحواء في الجنة هي البراءة المطلقة والقدرة التي لا تحد.. وكان الله قد سمح لهما بأن يقتربا من كل شيء، وأن يستمتعا بكل شيء، ما عدا شجرة واحدة.. وحذرهما الله تعالى من غواية إبليس لهما لأنه يريد الشقاء لهما.. ولم يذكر لنا القرآن الكريم مكان إبليس في هذا الوقت، ولا قدرته على التأثير على آدم وزوجه.. .

قبل دخول الجنة قال الله لهما: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ البقرة:35، وفهم آدم وحواء أنهما ممنوعان من الأكل من هذه الشجرة.. غير أن آدم إنسان، والإنسان ينسى، وقلبه يتقلب، وعزمه يضعف.. واستغل إبليس إنسانية آدم وجمع كل حقده في صدره، واستغل تكوين آدم النفسي.. وراح يوسوس إليه يومًا بعد يوم: هل أدلُّك على شجرة الخلد ومُلْكٍ لا يبلى؟

تساءل آدم بينه وبين نفسه.. ماذا يحدث لو أكل من الشجرة.. ربما تكون شجرة الخلد حقًّا، وكان حلم آدم أن يخلد في البراءة المطلقة التي يعيش فيها في الجنة.

ومرت الأيام وآدم وحواء مشغولان بالتفكير في هذه الشجرة.. نسيا أن الله حذرهما من الاقتراب منها، نسيا أن إبليس عدوهما القديم.. ثم قرَّرا يومًا أن يأكلا منها.. ومد آدم يده إلى الشجرة وقطف منها إحدى الثمار وقدمها لحواء.. وأكل الاثنان من الثمرة المحرمة.

قال تعالى: في سورة طه: ﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾ طه:121.

ليس صحيحًا ما تذكره صحف اليهود من إغواء حواء لآدم وتحميلها مسؤولية الأكل من الشجرة.. إن نص القرآن الكريم لا يذكر حواء.. إنما يذكر آدم -كمسؤول عما حدث- عليه الصلاة والسلام. وهكذا أخطأ الشيطان وأخطأ آدم بسبب الكبرياء.

لم يَكَدْ سيدنا آدم ينتهي من الأكل حتى أحسَّ أن صدره ينقبض.. أحس الألم والحزن والخجل.. اكتشف أنه عارٍ، وأن زوجته عاريةٌ.. وبدأ هو وزوجته يقطعان أوراق الشجر لكي يغطي بها كل واحد منهما جسده العاري.. وأصدر الله تبارك وتعالى أمره بالهبوط من الجنة.. .

وهبط سيدنا آدم وحواء إلى الأرض.. خرجا من الجنة، كان آدم حزينًا وكانت حواء لا تكف عن البكاء.. وكانت توبتهما صادقة؛ فتقبل الله منهما التوبة.. وأخبرهما الله أن الأرض هي مكانهما الأصلي.. يعيشان فيها، ويموتان عليها، ويخرجان منها يوم البعث.. قال: ﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ الأعراف:25.

حكى الله تعالى قصة الدرس الثالث الذي تعلمه سيدنا آدم خلال وجوده في الجنة وبعد خروجه منها وهبوطه في الأرض، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ  * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰطه:115-123.

لم يكن هبوط سيدنا آدم إلى الأرض هبوط إهانة، وإنما كان هبوط كرامة كما يقول الصوفيون، كان الله تعالى يعلم أن آدم وحواء سيأكلان من الشجرة.. ويهبطان إلى الأرض.. كان الله تعالى يعلم أن الشيطان سيغتصب منهما البراءة.. وكانت هذه المعرفة شيئًا لازمًا لحياتهما على الأرض.. .

وكانت التجربة كلها ركنًا من أركان الخلافة في الأرض.. ليعلم سيدنا آدم وحواء  ويعلم جنسهما من بعدهما أن الشيطان طرد الأبوين من الجنة، وأن الطريق إلى الجنة يمر بطاعة الله وعِداء الشيطان.

هل يقال لنا: إن الإنسان مُسَيَّرٌ مجبورٌ؟ وإن سيدنا آدم كان مجبورًا سلفًا على أن يخطئ ويخرج من الجنة ويهبط إلى الأرض؟؟

إن هذا التصور لا يقل سذاجة عن التصور الأول.. كان سيدنا آدم حرًّا تمام الحرية؛ ولهذا تحمل تَبِعَةَ عمله.

عصى وأكل من الشجرة فأخرجه الله تعالى من الجنة.. معصيته لا تنافي حريته.. بل إنها تستمد وجودها الأصلي من حريته.

كل ما في الأمر أن الله تعالى كان يعلم سلفًا ما سيحدث، يعلم الله تعالى الأشياء قبل حدوثها، والعلم هنا نور يكشف، وليس قوة تقهر.. بمعنى أن الله تعالى يعلم ما سيحدث، ولكنه لا يدفعه دفعًا أو يقهره قهرًا على الحدوث.. إن الله تعالى يعطي الحرية لعباده ومخلوقاته، ويرتب على ذلك حكمته العليا في تعمير الأرض وإقامة الخلافة فيها.. .

 

فهم آدم درسه الثالث، وتذكر تحذير الله تعالى له من إبليس.. فهم أن إبليس عدوه.. فهم ذلك بشكل عملي.. أن إبليس هو السبب في فقدانه للنعيم وفي شقائه.. فهم أن الله تعالى يعاقب على المعصية.. وأن الطريق إلى الجنة يمر بطاعة الله تعالى.. فهم أن الله تعالى يقبل التوبة ويعفو ويرحم ويجتبي.

علمهما الله تعالى أن يستغفرا قائلين: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الأعراف:23، وقبل الله تعالى توبتهما وعفا عنهما وأرسلهما إلى الأرض.

 

بدأت حياة سيدنا آدم وزوجه في الأرض.. .

هنا في الأرض كان على سيدنا آدم أن يواجه شقاء وصراعًا لا ينتهي أحدهما إلا ليبدأ الآخر، وكان عليه أن يشقى ليأكل، وكان عليه أن يحمي نفسه بالملابس والأسلحة، ويحمي زوجته حواء –الضعيفة- من الحيوانات والوحوش التي تعيش في الأرض.. وكان عليه قبل هذا كله وبعده أن يستمر في صراعه مع روح الشر.. إن الشيطان هو السبب في خروجه من الجنة.. والمعركة بين الخير والشر لا تتوقف، ومن يتبع هدى الله تعالى فلا خوف عليه ولا يحزن.. ومن يعصِ اللهَ تعالى ويتبع المخلوق الناري إبليس فهو معه في النار.

فهم سيدنا آدم هذا كله مع الشقاء الذي بدأت به حياته على الأرض، الشيء الوحيد الذي كان يخفف حزنه أن الله تعالى قد سخرها له ولزوجه ولبنيه من بعده.. وعليه أن يخضعها، ويستعمرها، ويزرعها ويبنيها ويعمرها، ووينجب فيها نسلًا يكبرون ويغيرون شكل الحياة ويجعلونها أفضل.. .

ثم شاء الله تعالى أن يعمر الأرض بنو آدم –عن طريق التناسل من نطفة سيدنا آدم وبويضة سيدتنا حواء-، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ النساء:1.

كانت حواء تلد في البطن الواحد ابنا وبنتا، وفي البطن التالي ابنا وبنتا، فيحلُّ زواج ابن البطن الأول من بنت البطن الثاني.. .

وكبر أبناء سيدنا آدم وتزوجوا، وملؤوا الأرض نسلًا.. ودعاهم سيدنا آدم إلى الله تعالى.. .

وقُدِّر لسيدنا آدم أن يشهد أول انحياز من أحد أبنائه لروح الشر إبليس.. وقعت أول جريمة قتل على الأرض.. قتل أحد أبناء سيدنا آدم شقيقه، قتل الشريرُ أخاه الطيب، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ﴾ المائدة:27.

يقال إن القاتل كان يريد زوجة شقيقه لنفسه.. وأمرهما آدم أن يقدِّما قُربانًا، فقدم كلُّ واحد منهما قربانًا، فتقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ المائدة:27، ﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ المائدة:27-28.

لاحظْ كيف ينقل إلينا الله تعالى كلمات القتيل الشهيد، ويتجاهل تمامًا كلمات القاتل.. عاد القاتل يرفع يده مهددا.. قال القتيل في هدوء: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَالمائدة:29.. انتهى الحوار بينهما وانصرف الشرير وترك الطيب مؤقَّتًا.

بعد أيام.. كان الأخ الطيب نائمًا وسط غابة مشجرة.. وتوجه الأخ الشرير نحو شقيقه النائم، ورفع يده وأهوى بها بعنف وسرعة.. وعاد القاتل ينهال على شقيقه حتى سكنت حركته.. .

كان هذا الأخ القتيل أول إنسان يموت على الأرض.. ولم يكن دفن الموتى شيئًا قد عرف بعد، وحمل الأخ جثة شقيقه وراح يمشي به.. التفت القاتل فوجد غرابًا حيًّا يصرخ فوق جثة غراب ميت، وضع الغراب الحي الغراب الميت على الأرض وساوى أجنحته إلى جواره وبدأ يحفر الأرض بمنقاره ورجليه.. حتى إذا صنع لأخيه لحده وقبره.. رفعه بمنقاره ووضعه برفق في القبر، ثم صرخ صرختين قصيرتين وعاد يهيل عليه التراب.. بعدها طار في الجو وهو يصرخ.

وقف القاتل وانكفأ على جثة شقيقه.. وصرخ.. ﴿قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي﴾ المائدة:31.. اكتشف فجأة.. أنه هو الأسوأ والأضعف، قد قتل الأفضل والأقوى، نقص أبناء آدم واحدًا.. وكسب الشيطان واحدًا من أبناء آدم.. واهتز جسد القاتل ببكاء عنيف وندم شديد، ثم أنثب أظافره في الأرض وراح يحفر قبر شقيقه.

 

قال سيدنا آدم حين عرف القصة: ﴿قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ القصص:15، وحزن حزنًا شديدًا على خسارته في ولديه؛ مات أحدهما، وكسب الشيطانُ الثاني.

صلى سيدنا آدم على ابنه، وعاد إلى حياته في الأرض إنسانًا يعمل ويشقى ليصنع خبزه، ونبيًّا يعِظ أبناءه وأحفاده ويحدثهم عن الله ويدعوهم إليه، ويحكي لهم عن إبليس ويحذرهم منه.

كبر سيدنا آدم، وبعد فترة من الزمن وعلى فراش من أغصان الشجر والورود يرقد آدم بلحيته البيضاء ووجهه الطيب.. أبناؤه جميعًا يقفون حوله في انتظار وصيته.. وتحدث آدم فأفهم أبناءه أن هناك سفينة واحدة لنجاة الإنسان، وسلاحًا واحدًا لانتصاره، هذه السفينة هي هدى الله تعالى، وهذا السلاح هو كلمات الله.

طمأن سيدنا آدم أبناءه بأن الله لن يترك الإنسان وحده على الأرض.. إنما سيرسل أنبياءه لهدايته وإنقاذه.. وسيختلف الأنبياء في الأسماء والصفات والمعجزات.. ولكنهم سيُجمعون على شيء واحد: الدعوة إلى عبادة الله وحده.. وتلك كانت وصية آدم لأبنائه.

انتهى آدم من وصيته، وأغمض عينيه، دخل الملائكة حجرته وأحاطوا به وتعرف بينهم على ملك الموت.. وابتسم قلبه للسلام العميق.. وهبَّت على روحه رائحة أزهار الجنة.

ومرت سنوات وسنوات.. وانتشر أبناؤه في الأرض.. وما زالوا يتناسلون.. ويتكاثرون.. ويتفاعلون.. كما أراد الله تعالى.