القَدَر يتكلم على لسان الخضر عليه السلام
لعل أحد أكثر الأسئلة التي تدور في الأذهان هو ما يعرف فلسفيًّا باسم (سؤال الشر)، وهو: لماذا خلق اللهُ الشرَّ والفقر والمعاناة والحروب والأمراض؟ لماذا يموت الأطفال في البلدان التي تشتعل فيها الحروب؟ لماذا يموت الأطفال جوعًا في البلدان الفقيرة؟ أليس الله هو الرحمن الرحيم؟ فكيف يمتلئ الكون بكل هذه المآسي؟
سيكون من الرائع لو تمكننا من فهم تلك المتناقضات التي ترهق أرواحنا، ولفهْم ذلك سنرجع إلى ما قبل ثلاثة وثلاثين قرنًا من الآن، عندما كان عند نبي الله موسى عليه السلام –كما عندنا اليوم- الكثيرُ من الأسئلة الفلسفية.. فقد سأل موسى ربَّه عن القدر، وكيف يجري، وهي عين أسئلتنا اليوم.. فطلب الله عز وجل منه أن يلاقي الخضر عليه السلام..
والحقيقة أن الكثيرين يختزلون مفهوم الخضر في صفة ولي من أولياء الله، في حين أن الخضر عليه السلام يمثل القدَر نفسه.. والجميل أن هذا القدر يتكلم.. لذلك نحن الآن سنقرأ حوارًا بين نبي(بَشَر) مثلنا تمامًا.. لديه نفس أسئلتنا.. وبين قدر الله المتكلم.. ولنقرأ هذا الحوار من زاوية جديدة..
أول جزء في الحوار كان وصف هذا القدر المتكلم: ((آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما))، أي: إنه قدَرٌ رحيم وعليم.. وهذا أصل مهمٌّ جدًّا.. ثم يقول موسى عليه السلام: ((هل أَتَّبِعُكَ على أن تُعَلِّمَنِي مما عُلِّمْتَ رُشْدَا)).. يرد القدر: ((إنَّكَ لن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرَا وكيف تَصْبرُ على ما لم تُحِطْ به خُبْرَا((، جواب جوهري جدًّا.. فهْمُ أقدار الله فوق إمكانيات عقلك البشري.. ولن تصبر على التناقضات التي تراها.. فيردُّ موسى عليه السلام بفضول البشر: ((ستجدني إِنْ شَاءَ اللهُ صَاِبراً ولا أَعْصِي لَكَ أمرا)).. ويرد القدر: ((فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا)).. ويمضي الرجُلان.. ويركبا في قارب لمساكين يعملون في البحر.. ويقوم الخضر بخرق القارب.. وواضح تمامًا أن أصحاب المركب عانوا كثيرًا من فعلة الخضر.. لأن موسى تساءل بقوة عن هذا الشر كما نتساءل نحن.. ((أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لقد جِئْتَ شَيْئَا إمرا)).. عتاب للقدر تمامًا كما نفعل.. أخلقتني بلا ذرية كي تشمت بي الناس؟ أفصلتني من عملي كي أصبح فقيرًا؟ نفس الأسئلة.. يسكت الخضر ويمضي.. الشاهد الأساسي هنا أن أصحاب المركب عانوا أشد المعاناة.. وكادوا أن يغرقوا.. وتعطلت مصلحتهم وباب رزقهم.. لكن ما لبثوا أن عرفوا بعد ذهاب الخضر ومجيء الملك الظالم أن خرق القارب كان شرًّا مفيدًا لهم.. لأن الملك لم يأخذ القارب غصبًا..
نكمل.. موسى لا زال في حيرته.. لكنه يسير مع الرجل (القدر) الذي يؤكد لموسى.. ((ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا))؟؟ ألم أقل لك يا إنسان: إنك أقل من أن تفهم الأقدار.. يمضي الرجلان.. ويقوم الخضر الذي وصفناه بالرحمة والعلم بقتل الغلام.. ويمضي.. فيغضب موسى عليه السلام .. ويعاتب بلهجة أشد.. ((أَقَتَلْتَ نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا((، تحول من (إمراً) إلى (نكراً)، والكلام صادر عن نبي أوحي إليه.. لكنه بشر مثلنا.. ويعيش نفس حيرتنا.. يؤكد له الخضر مرة أخرى: ((ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا)).. وهنا أصل مهم.. وهو أننا مسلمون، قرأنا القرآن ننظر إلى الصورة من فوق.. فنحن نعرف أن الخضر فعل ذلك لأن هذا الغلام سيكون سيئًا مع أمه وأبيه.. ((وكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا)).. والسؤال: هل عرفت أم الفتى بذلك؟ هل أخبرها الخضر؟..
الجواب: لا.. بالتأكيد قلبُها انفطر، وأمضت الليالي الطويلة حزنًا على هذا الفتى الذي ربته سنين في حجرها ليأتي رجل غريب يقتله ويمضي.. وبالتأكيد.. هي لم تستطع أبدًا أن تعرف أن الطفل الثاني كان تعويضًا عن الأول.. وأن الأول سيكون سيئًا.. فهنا نحن أمام شرٍّ مستطير حدث للأم.. ولم تستطع تفسيره أبدًا..
ثم يصل موسى والخضر إلى القرية.. فيبني الجدار ليحمي كنز اليتامى.. هل اليتامى أبناء الرجل الصالح عرفوا أن الجدار كان سيهدم؟ لا.. هل عرفوا أن الله أرسل لهم من يبنيه؟ لا.. هل شاهدوا لطف الله الخفي.. الجواب قطعا: لا.. هل فهم موسى السر من بناء الجدار؟ لا..
ثم مضى الخضر.. القدر المتكلم.. بعد أن شرح لموسى ولنا جميعًا كيف يعمل القدر والذي يمكن تلخيصه ببساطة كالآتي..
الشر شيء نسبي.. ومفهوم الشر عند البشر مفهوم قاصر؛ لأننا لا نرى الصورة كاملة، فما بدا شرًّا لأصحاب المركب اتضح أنه خير لهم.. وهذا أول نوع من القدر.. شر تراه فتحسبه شرًّا.. فيكشف الله لك أنه كان خيرًا.. وهذا نراه كثيرًا..
النوع الثاني: مثل قتل الغلام.. شر تراه فتحسبه شرًّا.. لكنه في الحقيقة خير.. ولا يكشف الله لك ذلك فتعيش عمرك وأنت تعتقد أنه شر.. مثل قتل الغلام.. لم تعرف أمه أبدًا لم قُتِل..
النوع الثالث -وهو الأهم-: هو الشر الذي يصرفه الله عنك دون أن تدري.. لطف الله الخفي.. الخير الذي يسوقه إليك.. مثل بناء الجدار لأيتام الرجل الصالح..
فالخلاصة إذن.. يجب أن نقتنع بكلمة الخضر الأولى ((إنك لن تستطيع معي صبرا)) لن تستطيع يابن آدم أن تفهم أقدار الله.. الصورة أكبر من عقلك.. قد تعيش وتموت وأنت تعتقد أنك تعرضت لظلم في جزئية معينة.. لكن الحقيقة هي غير ذلك تمامًا..