قال الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى: "ويندفع شرُّ الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
أحدها: التعوُّذ بالله تعالىٰ من شرِّه، والتحصُّن به، واللجأ إليه.
السبب الثاني: تقوىٰ الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقىٰ الله تولىٰ الله حِفْظَه، ولَم يَكِلْه إلى غيره، قال تعالىٰ: (( وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم كيدهم شيئًا ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "اِحْفَظِ اللهَ يحفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ"، فمَن حفظ اللهَ حفظه اللهُ ووجده أمامه أينما توجَّه، ومن كان اللهُ حافظَهُ وأمامه فمِمَّنْ يخاف ومَن يحذر؟
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقابله ولا يشكوه، ولا يحدِّث نفسه بأذاه أصلًا، فما نُصِر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله.
السبب الرابع: التوكل على الله: فـ (( من يتوكّل على الله فهو حسبه ))، والتوكل من أقوىٰ الأسباب التي يدفع بها العبدُ ما لا يطيق من أَذىٰ الخلق وظلمهم وعُدوانهم.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له، فلا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شرِّه.
السبب السادس: وهو الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبّته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلَّطت عليه أعداءَه؛ فإن الله تعالىٰ يقول : (( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم))، فما سلِّط على العبد مَن يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره.
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد... فما يكاد العين والحسد والأذىٰ يتسلّط على محسنٍ متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معامَلًا فيه باللُّطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشقِّها عليها، ولا يوفَّق له إلا من عَظُم حظُّه من الله، وهو: إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذىً وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا وله نصيحة وعليه شفقة.
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كلِّه، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو: تجريد التوحيد، والترحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه آلاتٌ بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محرِّكها وفاطرها وبارئها، ولا تضرُّ ولا تنفع إلا بإذنه...
فهذه عشرة أسباب يندفع بها شرُّ الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجُّه إلى الله وإقباله عليه وتوكُّله عليه وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتىٰ علّق قلبه بغيره ورجاه وخافه وُكِل إليه وخُذل من جهته، فمن خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه، ومن رجا شيئًا سوىٰ الله خُذِل من جهته وحُرِم خيره، هذه سنة الله في خلقه، (( ولن تجد لسنة الله تبديلا ))".
بدائع الفوائد (٧٦٤/٢)